header

جرائم في الغابة: حيوانات تقتل لا لتأكل!

إعداد: جوسلين بوراشد البستاني

في البراري الموحشة والمحيطات الهادئة، لا تحكم قوانين الغابة دائمًا بشريعة الجوع. ثمة مشاهد مدهشة في مملكة الحيوان تُسجل فيها جرائم قتل بلا هدف غذائي، بل بدوافع اجتماعية أو تناسلية أكثر تعقيدًا. كثيرًا ما رُصدت حالات لذكور من الحيوانات تقتل صغارًا من جنسها أو حتى من أنواع أخرى، لا بدافع الجوع أو الافتراس، بل بدافع الهيمنة، التنافس الجنسي أو تعزيز فرصها في التكاثر.

الدلافين، التي طالما ارتبطت في أذهان الناس بالذكاء والوداعة، ارتكبت أفعالاً مفاجئة للعلماء. فقد وثّقت عدة دراسات حالات لدلافين ذكور من نوع “بنيّة الأنف” وهي تقتل صغارًا حديثي الولادة، سواء من جنسها أو من أنواع قريبة. في إحدى الحالات التي نُشرت في صحيفة The Guardian  في نيسان/أبريل 2025، تم تصوير مجموعة دلافين قبالة سواحل ويلز وهي تهاجم صغيرًا من نوع آخر، ما يُعرف في البيولوجيا السلوكية بـ”القتل بين الأنواع (Porpicide)”، يرى الباحثون أن مثل هذا السلوك لا يهدف لإطعام القاتل، بل لفرض السيطرة أو لإعادة الأنثى إلى دورتها الإنجابية بسرعة، حيث يؤدي غياب الصغير إلى توقف الرضاعة، ما يسمح للأنثى بالتزاوج من جديد، غالبًا مع القاتل نفسه.

ولا تقتصر هذه الاستراتيجية على الكائنات البحرية وحسب، ففي البراري الأفريقية، تُسجّل الأسود والفهود سلوكًا مُشابهًا، عندما يستولي ذكر أسد جديد على زمرة ما، كثيرًا ما يقتل الأشبال التي أنجبتها الإناث من الذكر السابق. القتل هنا ليس بدافع عدواني عشوائي، بل يُعد وسيلة لضمان بقاء النسل من صلبه فقط. ما أن يُقتل الشبل، حتى تتوقف الأنثى عن الإرضاع وتدخل في دورة شبق جديدة، ليتمكن الذكر الجديد من التزاوج معها وإنجاب ذريته الخاصة. الأمر ذاته رُصد عند الفهود، الذين يلجأون أحيانًا لقتل صغار منافسيهم لجذب الإناث وتسريع فرصتهم بالتكاثر.

دراسات عدة نُشرت في المجلة العلمية Proceedings of the Royal Society B، وفي مقالات موثقة على PubMed Central، فسّرت هذه الظاهرة بما يُعرف بـ”القتل الانتقائي التناسلي” (Sexual selection infanticide)، وهو سلوك موروث يهدف إلى تعظيم فرص الذكر في تمرير جيناته على حساب جينات منافسيه. الحيوانات لا تقتل بدافع الشر، بل بدافع البقاء الجيني في بيئة تنافسية لا تعرف إلا الأقوى.

ومن القردة العليا إلى الحيتان، يتكرر هذا النمط بسيناريوهات مختلفة، لكنه يبقى موحدًا في هدفه: إعادة هيكلة الجماعة بما يخدم مصالح الذكر المهيمن، حتى وإن تطلّب ذلك إزالة نسل غيره من الوجود. ما تراه عدسة الكاميرا على أنه مشهد مؤلم، قد تراه الطبيعة كحلقة جديدة من حلقات الصراع البيولوجي الصامت.

إن فهمنا لهذه السلوكيات يجب ألا يكون أخلاقيًا بمقاييس البشر، بل علميًا. فهي تعكس مدى تعقيد العلاقات الاجتماعية في مملكة الحيوان، وتفضح هشاشة افتراضاتنا حول البراءة الفطرية في الطبيعة. لا شيء بريء بالكامل. حتى الغابة، بكل ما فيها من جمال، تخبئ في ظلالها جرائم لا تُرتكب من أجل الطعام، بل من أجل الخلود الجيني.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *