في أعالي الجبال اللبنانية، حيث تنبسط المروج وتتناثر الصخور، يطلّ طائرٌ مهاجر نادر، لا يظهر إلا عابرًا… كزائرٍ خجول يُدعى الدُّجّ المُطوَّق (Ring Ouzel)، طائرٌ شحيح التواجد، لكنه يترك بصمته بين الصخور وفي ظلال الأشجار.
ينتمي هذا الطائر الأنيق إلى عائلة السمنيات (Turdidae)، ويُشبه السُّمَّان الأسود، لكنه يتميّز بخصلة فريدة: حلقة بيضاء واضحة تحيط بصدره، تلمع على خلفية من الريش الأسود الداكن، لا سيما عند الذكر. أما الأنثى، فريشها أقلّ لمعانًا، وقد تكون الحلقة الصدرية لديها غير مكتملة أو باهتة.
يُعدّ الدُّجّ المطوَّق من الطيور المهاجرة طويلة المسافة، إذ يُفرّخ في أوروبا وآسيا، ثم يشدّ رحاله جنوبًا في الخريف نحو حوض البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا، بحثًا عن مناخ أدفأ وغذاء أوفر. وفي رحلته العابرة، يزور لبنان خريفًا وربيعًا، مفضّلًا المناطق الجبلية العالية، ذات المروج المفتوحة والصخور المتناثرة، خصوصًا في مناطق مثل الضنية، اللقلوق، والمناطق المتاخمة لأرز الشوف.
يتغذى هذا الطائر على الحشرات، الديدان، والتوت، حيث يُشكّل التوت البري عنصرًا أساسيًا في نظامه الغذائي، لا سيما في الخريف. ومن خلال تناوله للثمار، يساهم الدجّ المطوّق في نشر بذور النباتات، مما يعزّز تجدد الغطاء النباتي في الجبال، ويجعل منه فاعلًا طبيعيًا في الحفاظ على التنوع البيئي.
في مواطن تفريخه، يبدأ موسم التزاوج في الربيع. تبني الأنثى عشّها بعناية على الأرض أو بين الصخور، وتضع ما بين 3 و5 بيضات، تحتضنها مدة 12 إلى 14 يومًا. وبعد الفقس، يتعاون الأبوان في رعاية الصغار حتى تشتدّ أجنحتهم ويغادروا العش نحو عوالم الاستقلال.
ويتميّز هذا الطائر بنداء عذبٍ موسيقي، يُسمع في أعالي الجبال خلال موسم التزاوج، حتى أن بعض الثقافات الريفية تعتبره رمزًا للحظ والتجدد، فيربطون ظهوره ببدايات جديدة أو بأخبار سارة قادمة من بعيد.
لكن رغم سحره، يواجه الدجّ المطوّق تهديدات متزايدة، أبرزها فقدان الموائل بسبب الزراعة والتوسع العمراني، بالإضافة إلى التغيرات المناخية التي تؤثر على مواعيد هجرته وتوفر مصادر غذائه. كما أن افتراس البيوض والصغار من قِبَل الطيور الجارحة والثدييات المفترسة يزيد من ضغوط البقاء.
ورغم أنه لا يُصنَّف ضمن الطيور المهددة عالميًا، إلا أن ندرة ظهوره في لبنان تجعله من الطيور التي تستحق الرصد والحماية، لما يمثله من قيمة بيئية ورمزية في آنٍ معًا. حمايته تبدأ بالحفاظ على المروج الجبلية، والحدّ من التوسع العمراني في أعالي الجبال، لضمان أن تظل الجبال مأهولةً بأمثاله، زوّار الظلال والقمم.