بين ظلال الغابات الصنوبرية ووديان الأرز العميقة، يرفرف طائر القرقف الفحمي (Coal Tit) بخفةٍ وذكاء، حارسًا صغيرًا للمكان، ورفيقًا صامتًا للأشجار اللبنانية العريقة. طائرٌ مقيم ومفرخ، لا يغادر أرضه، بل يواجه تغيرات الطبيعة بشجاعة ودهاء.
ينتمي القرقف الفحمي إلى فصيلة القراقف (Paridae)، وهو من أصغر الطيور الغابية حجمًا، إذ لا يتجاوز طوله 10 إلى 12 سنتيمترًا، ويزن ما بين 8 و10 غرامات فقط. يتميّز برأسٍ أسود تتخلله خطوط بيضاء لامعة على الجبهة والخدّين، وظهرٍ رماديّ، بينما يغلب على بطنه اللون الأبيض المصحوب بمسحةٍ بنية خفيفة.
يمتلك هذا الطائر قدرة استثنائية على التكيّف، إذ ينتشر في الغابات المختلطة، الأحراش، وحتى الحدائق والمتنزهات، سواء في الريف أو في أطراف المدن. وتكمن أهميته البيئية في دوره الفعّال في مكافحة الآفات، خصوصًا تلك التي تهدد أشجار الأرز في لبنان، مثل حشرة الأرز المنشارية الغازية. فهو، إلى جانب أنواع أخرى من القراقف، يساهم طبيعيًا في تقليص أعداد هذه الحشرة، مما يجعل وجوده عنصرًا حيويًا في توازن المنظومة البيئية الجبلية.
يتنوّع غذاء القرقف الفحمي بحسب الفصول: ففي الصيف يعتمد على الحشرات والعناكب، أما في الشتاء، فيلجأ إلى البذور والحبوب. ومن عاداته المدهشة أنه يخزّن الطعام خلال فصل الخريف في تجاويف الأشجار وشقوقها، مستعينًا بذاكرته الفائقة التي تمكّنه من تذكّر مئات المواقع التي أخفى فيها الغذاء، ليضمن بقاءه في وجه برد الشتاء القاسي.
وفي موسم التزاوج، الذي يبدأ مع الربيع، تبني الأنثى عشّها داخل تجاويف الأشجار، أو في صناديق التعشيش التي يوفّرها الإنسان في مناطق الحماية. وتضع من 6 إلى 11 بيضة، تحتضنها ما بين 14 و16 يومًا. وبعد الفقس، يتناوب الأبوان على إطعام الصغار حتى يكتسبوا قوتهم ويصبحوا قادرين على الطيران بعد نحو ثلاثة أسابيع.
وإلى جانب ذاكرته الحادة، يُعرف القرقف الفحمي بقدرته اللافتة على تغيير نغمة صوته بحسب الموقع الجغرافي الذي يعيش فيه، ما يمنح كل مجموعة صوتًا مميزًا، ويعكس ثراءً صوتيًّا فريدًا بين الطيور.
ورغم أنه يُصنّف ضمن الأنواع غير المهددة عالميًا وفقًا للقائمة الحمراء للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN)، إلا أن هذا لا يعني أنه في مأمن. ففقدان الموائل نتيجة قطع الأشجار، التوسع العمراني، تغيّر المناخ، وتلوّث البيئة، كلها عوامل تهدد توازن حياته على المدى البعيد. كما أن استخدام المبيدات الحشرية يشكّل خطرًا مباشرًا على مصادر غذائه.
لذلك، فإن الحفاظ على القرقف الفحمي لا يقتصر على صونه كنوع، بل يشمل حماية النُظم البيئية التي ينتمي إليها، ودعم التنوّع البيولوجي الذي يزخر به التراث الطبيعي اللبناني.